الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (67): {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}{وَمِن ثمرات النخيل والاعناب} متعلق حذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وحذف لدلالة {نُّسْقِيكُمْ} قبله عليه، وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} بيان وكشف عن كنه الإسقاء أو بتتخذون و{مِنْهُ} من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيهاأو خبر لمحذوف صفته {تَتَّخِذُونَ} أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه، وضمير {مِنْهُ} عائد إما على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرفة أريد به الجنس، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر، و{السكر} الخمر قال الأخطل:وهو في الأصل مصدر سكر سكرًا وسكرًا نحو رشد رشدًا ورشدًا. واستشهد له بقوله: وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك، وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه، وقدم الوجه الأول من أوجه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفًا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانًا للعبرة في الإنعام، وفيه أن {أنكاثا تَتَّخِذُونَ} لا يصلح كشفًا عن كحنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضًا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى: {نُّسْقِيكُمْ} [النحل: 66] ليجعل مدركًا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من {نُّسْقِيكُمْ} وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} تم البيان عنده ثم أتى بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخر أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون ليكون عطفًا للإسمية على الإسمية أعني قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً} [النحل: 66] ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفى بكونه عطفًا على ما هو عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوض وغير ذلك اه، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند {سَكَرًا} محوج إلى جعل {رِزْقًا} معمولًا لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما ذكره من الوجه الأظهر طكره الحوفي كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضًا من مجرور من أوفى المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد يحذف موصوفًا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز: أراد رجل نعم قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر {مَا} موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله: لا وجه لما اختاره صاحب الكشاف يعني به تعليق الجار بنسقيكم محذوفًا وتقدير العصير مضافًا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتها يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال: والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون: إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرًا ورزقًا حسنًا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار بتتخذون ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد، ونقل عنه أنه جعله متعلقًا بما في الإسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضًا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك، وقيل: إنه معطوف على الانعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة {وَتَتَّخِذُونَ} بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر في بدل من وضمير {مِنْهُ} لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرًا بما قيل في ضمير {بُطُونِهِ} وتفسير {السكر} بالخمر هو المروى عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد. والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالًا يشربها والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة إتفاقًا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها {يَأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير، وقيل: نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس أن {السكر} هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن {السكر} المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشد: وتعقب بأن كون السكر في ذلك عنى الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتميزق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال الزجاج: إن قول أبي عبيدة لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلًا ولذا قيل: الغيبة فاكهة القراء وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا حلل فيكون ذلك دليلًا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب» أخرجه الدارقطني، وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي: وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوى بعد أن فسر {السكر} بالخمر تردد في أمر نزولها فقال: إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع على أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.وفي الكشاف بعد أن فسر {السكر} أيضًا بما ذكر قال: وفيه وجهان. أحدهما: أن تكون منسوخة. والثاني: أن يجمع بين العتاب والمنة، ونقل صاحب الكشاف أن القول بكونها منسوخة أولى الأقاويل، ثم قال: وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضًا من تقييد المقابل بالحسن، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول يكون رمزًا إلى أن السكر وإن كان مباحًا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم بأن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام، وذكر أن الكلام الزمخشري ومن تبعه ناشي عن الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف {السكر} بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسًا يحكم الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل الكر رزقًا حسنًا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات.وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة.هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى: {نُّسْقِيكُمْ} [النحل: 66] بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} باهرة {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم، قال أبو حيان: ولما كان مفتتح الكلام {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً} [النحل: 66] ناسب الختم بقوله سبحانه: يعقلون لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول: إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث أن العقار كما قيل للعقول عقال: فافهم ذاك والله تعالى يتولهم هداك. .تفسير الآية رقم (68): {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)}{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} الهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير؛ وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس التحل منها. نعم يصدر مها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بهاأنها ذوات عقول وصاحبة فضل تقصر عنه الفحول، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أؤرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا: فإنهم قالوا: ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة؛ ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلًا وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه: {أَنِ اتخذى} وقرأ ابن وثاب {النحل} بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون إتباعًا لحركة النون، و{ءانٍ} إما مصدرية بتقدير بناء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه، وذلك كاف في جعلها تفسيرية: وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال: إن في ذلك نظرًا لأن الوحي هنا عنى الإلهام إجماعًا وليس في الإلهام معنى القول: {مِنَ الجبال بُيُوتًا} أوكارًا، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيهًا له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة كما سمعت: وقرئ {بُيُوتًا} بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم.{وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روى عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض، و{مِنْ} في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك، وبعضهم قال: إن {مِنْ} للتبعيض بحسب الأفراد فقط، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول {مِنْ} إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة ليراجع، وأيًا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى من البديع صنعة الطبقا، وتفسير البيوت بيما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال أبو حيان: الظاهر أنها عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في الحيطان، ولما كان النحل نوعين منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهده في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين.
|